خطوات دعوية -15- زاد الداعية (3)
ذٌكر في الموضوعين السابقين من زاد الداعية أزاود مهمة يحتاج إليها الداعية إلى الله عزوجل
فكان أولها الإخلاص والتقوي ثم الزاد الثاني من : العلم ، الفهم ، العمل ..
واليوم إن شاء الله عزوجل مع الزاد الثالث : الحكمة + الرحمة + التواضع
إن الدعاة إلى الله لا يعيشون لأنفسهم ..
لأن الذي يعيش لنفسه فقط من أجل دنياه قد يعيش مستريحاً وربما سعيداً ولكنه يبقى صغير
أما الدعاة الصادقون فإنهم يعيشون لدعوتهم ، هي همّهم بالليل والنهار هي فكرهم في النوم واليقظة
وشغلهم في السر والعلانية يؤثرون من أجلها التعب والنّصب ويضحون في سبيلها بالوقت والجهد ويستعذبون
في سبيل نشرها و إبلاغها البلاء والعذاب والفتن ..
والآن ..
ما العلاقة بين الحكمة والرحمة والتواضع ؟؟
الحكمة : هي أن نقول ما ينبغي على الشكل الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي وكما ينبغي .
ولها ثلاثة أركان هي ( العلم + الحلم + الأناة )
وأضدادها هي ( الجهل + الطيش + العجلة ) فلا حكمة لجاهل وطائش وعجول ..
فالحكمة : هي الإصابة في الأقوال والأفعال ووضع كل شيء في موضعه
قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [ النحل : 125 ]
يقول فضيلة الشيخ ابن العثيمين رحمه الله في تفسير الآية :
قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ) في هذا دليل على وجوب الإخلاص ، أن تدعو إلى سبيل الله بإخلاص
وذلك لأن الدعاة لهم إرادات ؛ من الناس من يدعو إلى سبيل الله لكن انتقاماً من المدعو، أو انتصاراً لرأي
هذا الذي يدعو انتقاماً من المدعو أو انتصاراً لرأيه هل يكون داعياً إلى الله ، أو إلى سبيل الله ؟
لا .. يوجد أناس الآن يدعون إلى الله لكن يريدون أن ينصروا قولهم
ولذلك يصعب عليهم جداً أن يتراجعوا عنه ولو كان خلاف الحق ؛ لأنهم يريدون أن يكون الكلام لهم أو سلطة الرأي لهم
وهذا لا شك مجانبٌ للإخلاص تماماً ، هذا يدعو إلى الهوى وليس يدعو إلى الهدى .
إنسان آخر يدعو انتقاماً من الشخص هذا أيضاً غلط ، الواجب أن تدعو إلى الله ، وإلى سبيل الله لإصلاح عباد الله
وليس انتقاماً منهم ، ولا انتصاراً لرأيك ، ولكن لإصلاحهم ..
وإذا كان كذلك أي لإصلاح الخلق ؛ فسوف يسلك الإنسان أقرب الطرق إلى حصول المقصود .
وقوله جل وعلا : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ) ، يتبين أنه لابد من العلم ، لماذا ؟
لابد أن تعلم ما تدعو إليه أنه من شرع الله ، فتعلم أولاً ثم ادع ثانياً ..
أما أن تدعو إلى سبيل الله وأنت لا تعلم سبيل الله فكيف يمكن هذا ؟!
ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ) [ يوسف : 108 ]
أي : على علم ، فلابد أن يكون الإنسان عالماً بما يدعو إليه ، وأنه حق ومن شريعة الله .
أما مجرد أن ينقدح في ذهنه أن هذا حق بدون دليل شرعي فإنه لا يجوز أن يتكلم
لأن الله يقول : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) [ الإسراء : 36 ]
ويقول الله جل وعلا : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) [ الأعراف : 33 ]
لابد أن يكون الإنسان عالماً بالشرع
فلو رأيت إنساناً يصلي ولكنه لا يطمئن في صلاته !!
- يقول : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ، ثم يسجد بدون أن يطمئن -
هل يصح أن تقول له : إن صلاتك باطلة بدون علم ؟ لا يصح ، لأنه كيف تدعو إلى شيء لا تدري عنه ؟
لكن إذا كنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال للذي كان يصلي ولكنه لا يطمئن
قال : ( ارجع فصلِ فإنك لم تصلِ ) حينئذٍ يكون عندك دليل ويمكن أن تدعو إلى الله ..
لابد أيضاً أن يكون عالماً بحال المدعو ، وإلا فلا يجوز أن يتكلم ..
لابد أن تكون عالماً بحال المدعو وأنه يحتاج إلى دعوة ، وأنه ممن عنده علم أو ممن ليس عنده علم
ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ وقد بعثه إلى أهل اليمن ، قال : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب )
لماذا أخبره بحالهم ؟
من أجل أن يعرف كيف يخاطب هؤلاء ؛ لأن خطاب العالم ليس كخطاب الجاهل
خطاب العالم لابد أن يكون عندك قدرة على مجادلته ، إذ إن العالم الذي كان على باطل لا يمكن أن يقبل أو يستقبل
الدعوة بسهولة؛ لأن عنده علماً ، فتجده عندما تدعوه إلى الحق يجادل لإبطال الحق وإحقاق الباطل الذي كان عليه
فلابد أن تعلم لو أنك أردت أن تدعو نصرانياً إلى الدين الإسلامي يحتاج أن تعرف أنه نصراني وأن عقيدته التثليث مثلاً
يقول : إن الله ثالث ثلاثة ، فيحتاج أن تعرف كيف ترد عليه فيما لو احتج عليك بباطل وإلا لهزمت
وهزيمة الداعي إلى الله عز وجل والذي بنى دعوته على غير علم هذه مصيبة ، ليست مصيبة عليه وحده ..
بل مصيبة على ما يدعو إليه من الدين ، فلابد أن تكون عالماً بحال المدعو .
انظروا إلى قصة الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فجلس
هل دعاه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أن يصلي ركعتين قبل أن يعلم حاله ؟
لم يدعه حتى علم بحاله ، ووجه ذلك أن الرجل لما دخل جلس فقال له : أصليت ؟ قال : لا ، قال : قم فصل ركعتين
إذا وجدت إنساناً يأكل في رمضان هنا في المدينة هل أنكر عليه من أول الأمر ؟
لا أنكر عليه حتى أقول : أمسافر أنت ؟ أو أنت ممن يحل له الفطر ؟
لكن لو وجدت شخصاً من أهل البلد أعرف أنه من أهل البلد وأنه لا عذر له في الفطر !!
فحينئذٍ أنكر عليه ، أذكره لعله نسي
وعجباً من بعض العامة يقولون : إذا رأيت إنساناً يأكل في رمضان فلا تذكره لماذا ؟
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه )
ما دام الله أطعمه وسقاه لا تحرمه ، لا تقطع رزقه ، دعه يأكل ويشرب ، وهذا غلط ، الواجب أن يذكر المؤمن أخاه
لأن النبي صلى الله عليه وسلم : لما سها في صلاته قال :
( إنما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون ؛ فإذا نسيت فذكروني )
فيجب على المؤمن أن يذكر أخاه ، وهذا من باب التعاون على البر والتقوى
أما قوله : هذا رزق ساقه الله إليه دعه يأكل ويشرب ، هذا غلط .
يقول الله عز وجل: ( بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )
هذه ثلاثة أوصاف للدعوة ، هل هي أوصاف مقترنة ؟ أو أوصاف مترتبة ؟
يعني : بعضها في حال وبعضها في حال ، أو هي مقترنة ، يعني : تدعو بحكمة وموعظة ومجادلة ؟
الجواب :
الحال يقتضي أن تكون مرتبة :
أولاً : بالحكمة ، ببيان الحق ودليله من الكتاب والسنة ، واعلم أنني أحب لكل داعية أن يقرن دعوته بالدليل
أولاً : لبراءة الذمة ، وثانياً : ليطمئن المدعو
لأن المدعو إذا قيل له : هذا حرام ، أو هذا واجب لقوله تعالى ، أو لقول الرسول صلى الله عليه وسلم يطمئن بلا شك
ويكون له حجة عند الله عز وجل ، فإذا أمكنك أن تذكر الدليل للمدعو كان هذا خيراً ، لما فيه من إبراء الذمة
وثانياً : اطمئنان المدعو ، هذا الرجل رجل ليس عنده رد للدعوة وليس عنده مجادلة يكفي أن تدعوه بالحكمة
واعلم أن الحكمة كما قال الله عز وجل :
( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) [ البقرة : 269 ]
لو رأيت رجلاً يستغيث بصاحب قبر : يا سيدي ! يا مولاي ! يا ولي الله ! أغثني ، مثلاً : يستغيث بصاحب القبر
نحن نعلم أن الاستغاثة بصاحب القبر شركٌ أكبر مخرج عن الملة ، فهذا الذي يستغيث بصاحب القبر نقول :
لو مت على هذا لكنت من أصحاب النار ، أصحاب النار المخلدين فيها
لقول الله تعالى : ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) [ المائدة : 72 ]
رأيت رجلاً يستغيث بقبر ، هل تأتي مباشرة وتقول : أنت كافر ! أنت مشرك ! قد حرم الله عليك الجنة ؟
لا. ولا يجوز أن تقول هذا ، وإن كان واقع الحال هو ما ذكرت ، لكن لا يجوز ، هذا تنفير
اذكر له الحق ، والحق مطابقٌ تماماً للفطرة ، قل : يا أخي ! أو لا تقل : يا أخي ! هذه مشكلة
هل تقول لهذا الذي يستغيث بالقبر : يا أخي ! تعال هذا شرك بالله ، أو لا تقول : يا أخي ؟!
هو على كل حال هذا الرجل الذي يستغيث بالقبر لا تظن أنه يستغيث به وهو يعتقد أنه شركٌ مخرج عن الإسلام أبداً
هذا إذا كان ينتسب إلى الإسلام ، فإذاً : يصح أن تقول : يا أخي ! باعتبار أنه يرى نفسه مسلماً
وإن شئت فقل : يا أخي ! باعتبارٍ آخر وهو أنه باعتبار ما يكون ، وإن شئت فقل : يا رجل ! وتسلم من هذا الإشكال :
استغث بالله عز وجل
كما قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وأصحابه : ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ) [ الأنفال : 9 ]
الاستجابة مرتبة على الاستغاثة ، والفاء تدل على الترتيب والتعقيب ..
استغث بالله حتى يستجيب الله لك وربك على كل شيء قدير ، وهذا المخلوق الذي أنت الآن تستغيث به هو ميت
هامد ربما تكون الأرض أكلته ولا يبقى من جسده إلا عجب الذنب ولا ينفعك ، ثم بعد ذلك ترغبه في التوحيد ..
أترون أن هذا يقبل ، أو لو قيل له : أنت مشرك ، وهذا شرك ، ومن أشرك بالله حرم الله عليه الجنة ؟
الذي وبخته وأنكرت عليه بشدة هذا لا يقبل في الغالب ، لكن من أتيته بلطف وموعظة حسنة قبل .
والموعظة الحسنة هل هي بالصيغة أو بالكيفية ؟
بمعنى هل أنت تسوق له الأدلة من الكتاب والسنة على وجهٍ يقنع ، أو حتى بالكيفية ؟
الجواب :
بالأمرين جميعاً ، بكيفية السياق ، وبأقرب ما يمكن أن يقتنع به ، حتى لو ضربت له الأمثال افعل
ألم يكن الله عز وجل يضرب الأمثال للذين يدعون من دون الله ؟
( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ) [ العنكبوت : 41 ]
( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ) [ الرعد : 14 ]
الذي يريد أن يشرب من النهر ، ويخرج يديه باسطاً إياهما أيبقى شيء من الماء ؟!!
لا ، إذاً : هؤلاء الذين يدعون من دون الله لا يستجيبون لهم إطلاقاً لأن هذا الذي يريد أن يشرب وقد بسط كفيه !!
لا يمكن أن ينال ماءً ..
المرتبة الثالثة : إذا دعوناه بالحكمة ولم يفعل ، بالموعظة الحسنة ولم يفعل ، نأتي إلى المجادلة ..
لأن الذي لا يقبل بالموعظة سوف يجادل ، فنجادله لكن بالتي هي أحسن ، أقرب طريق يوصل إلى الحق اتبعه .
وأنا أذكر لكم الآن مجادلة وقعت بين إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وبين رجلٍ مشرك متمرد :
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]
فإذا كان ربك يحيي ويميت فأنا أحيي وأميت ، إذاً : أنا رب كربك
فقال له إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258]
جادله بماذا ؟ بالتي هي أحسن ، جادله بأمرٍ لا يتمكن من الرد عليه ، ولهذا قال: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258]
في البداية رد على إبراهيم لما قال إبراهيم : رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [ البقرة : 258 ] ، جادل وقال : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ
هل هذه دعوى منه أنه يحيي ويميت ؟ أو أنه منزل على حالٍ من الأحوال ؟
الظاهر أنه منزلٌ على حالٍ من الأحوال ؛ الأحوال :
هو أنه يؤتى إليه بالرجل الذي استحق القتل فلا يقتله ويدعي أن هذا إحياء
وليس إحياءً في الواقع الرجل حي من قبل ..
أو يؤتى إليه بالرجل لا يستحق القتل فيقتله ، فيقول : هذا إماتة . وهذا غير صحيح
هذا ليس إماتة لكنه فعل سببٍ يقتضي الموت ، ولو شاء الله ألا يموت هذا الذي قتل لم يمت
ألم تعلموا أن الدجال يأتيه الرجل الشاب ويقول : أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله !
فيقطعه قطعتين ويمشي بينهما ، ثم يدعوه فيقوم يتهلل ، من الذي أحياه ؟ الله عز وجل
فالمهم هذا الرجل قال بعض العلماء أراد بقوله :
أنا أحيي وأميت أنه يؤتى إليه بالرجل لا يستحق القتل فيقتله ، وادعى أن هذا إماتة
ويؤتى إليه بالرجل يستحق القتل فيرفع عنه القتل وادعى أن هذا إحياء
وقيل : إن هذه دعوى منه وليس يريد أن ينزلها على حالٍ من الأحوال ، يعني : ادعى أنه يحيي ويميت
وعلى كلٍ فإبراهيم عدل عن هذا الذي يمكن أن يكون جدلاً إلى أمرٍ لا يمكنه أن يتخلص منه
وهو ( إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ) [ البقرة : 258 ]
هل يمكن أن يدعي أنه يأتي بها من المغرب ؟
لا يمكن ؛ لأن هذا أمرٌ معلوم بالبداهة : ( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [ البقرة : 258 ]
ولهذا ينبغي للمجادل أن يسلك أقرب طريق لإفحام الخصم ، لا يتابعه ، لأنه ربما إذا تابعته صعد بك جبلاً
لا تستطيع رقيه ، لكن ائت بأمر لا يتخلص منه ، واعدل عن جوابه الذي أورد الشبهة فيه حتى تقضي عليه نهائياً .
المهم : حالنا بالنسبة لدعوة الناس تنقسم إلى أقسام
الأول : الدعوة بالحكمة
والثاني : إذا لم يقتنع نعظه بترغيبٍ وترهيب
والثالث : إذا جادل نجادله بالتي هي أحسن
وهناك أمر رابع لم يذكر في هذه الآية ، وهو إذا كان ظالماً : فإننا لا نجادله
لقول الله تبارك وتعالى : ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) [ العنكبوت : 46 ]
هؤلاء لا نجادلهم بالتي هي أحسن ، بل نجالدهم بالسيف ؛ لأنهم معاندون ..
فصار الأقسام إذاً أربعة ؛ ثلاثة ذكرت في آية واحدة ، والرابع في آية أخرى .
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من دعاة الحق وأنصاره ، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب
وإني أدعو إخواني الداعين إلى الله أن يستعلموا الأسهل والأيسر ..
ولهذا كان الرسول يبعث الناس للدعوة إلى الحق ويقول :
( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين )
فكل شيء يرغب الناس في الحق اتبعه فأنت على خير . انتهى كلام الشيخ
فالحكمة لم تقيد بالحسنة لأنها كلها حسنة ووصف الحسن لها ذاتي .
أما الموعظة فقد قيدت بالإحسان ، إذ ليس كل موعظة حسنة .
وكذلك الجدال يكون بالتي هي أحسن سواء مع المجادل نفسه أو لما يجادل به من أدلة وحجج وكلمات وأداء
يوضح المقصود ويوصل إلى المطلوب دون تعنيف أو توبيخ أو تحقير أو ازدراء لا لشخص المجادل ولا لفكره
- ولاسيما إن كان ل ايدري و يدري أنه يدري - فالأمر جاء من الله تعالى ، بأن ندعو إلى الله تعالى
( ادع إلى سبيل ربك ) لا لشخص أو لحزب أو لجماعة أو فرقة أو ندعو لكرسي زائل ومنصب فاني ..
فالداعي يؤدي واجبه مخلصاً لله تعالى ، دون أن تحدثه نفسه البتة بأن له فضل على أحد
فالفضل لله تعالى وحده الذي منَّ عليه بشرف الدعوة إليه سبحانه وتعالى وأعانه ووفقه لتحمل أعبائها ..
وهذه الحكمة هي فضل من الله تعالى يؤتيه لمن يشاء ( نسأل الله تعالى أن يرزقنا الحكمة في الأمر كله )
والحكمة كل الحكمة عندما ننصح برحمة ، فإن الغلظة أو القسوة تفسد ولا تصلح ، وتهدم ولا تبني
قال الله تعالى : ( فبما رحمة ٍ من الله لنتَ لهم ، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك )
وفي الحديث القدسي : ( إن رحمت تغلب غضبي .. ) [ رواه مسلم ]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد جمود العين واستغلاق القلب من الشقاء
ففي الحديث : ( إن أبعد الناس من الله تعالى القاسي القلب ) [ الترمذي ]
والرحمة في أفقها الأعلى وامتدادها المطلق ..
هي صفة المولة سبحانه وتعالى فإن رحمته شملت الوجود وعمت الملكوت ( ربنا وسعتَ كل شيء رحمة وعلماً )
إن القسوة في خلق الإنسان دليل نقص كبير وفي تاريخ الأمة دليل فساد خطير ..
قال عليه الصلاة والسلام : ( لن تؤمنوا حتى ترحموا ، قالوا يارسول الله : كلنا رحيم
قال : إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة ) [ الطبراني ]
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من لايرحم الناس لا يرحمه الله ، ومن لا يغفر لا يٌغفر له ) [ البخاري ]
فإن خشونة الكلام وغلظة القلوب يجعل الناس يفرّون وينفرون
وكم من أفكار وعقائد هدامة تنشر الشركيات والفساد من خلال أسلوب اللطف واللين والرفق
حتى يصلوا بالناس إلى الاتباع على غير هدى فقط من رحمتهم بهم ..
والأولى بنا نحن الدعاة أن ننهج نهج الحكمة في دعوتنا برحمة مع الناس ..
فالعامة في حاجة دائمة إلى كنف رحيم و رعاية حليم ، لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم
فهم يحتاجون إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ويحمل همومهم ولا يعينهم بهمّه ..
فيجب على الداعية أن يتزود بزاد الحكمة ويستعمل هذا الزاد برحمة مع العصاة والفاسدين ليكسب قلوبهم
ولاشك أن هذا الأمر يحتاج إلى مفتاح ومفتاح ذلك التواضع ..
فالرحمة : هي التذرع بالشفقة مع جميع المخلوقات ، والعطف على البؤساء والضعفاء
ومعاملة جميع الناس برأفة ولين ، فهي من دواعي الألفة والتواصل وسبب إلى السلام والوئام ..
أما التواضع : فهو تجمّل النفس بالخضوع ومنعها عن الترفع على الناس والاستخفاف بهم
وحملها على احترامهم مهما اختلفت درجاتهم وتباينت مشاربهم وضده الكبر ،
والتواضع هو انكسار القلب لله وخفض جناح الذل والرحمة للخلق حتى لا يرى له على أحد فضلاً ولا يرى عند أحد حقاً
فمن المزالق الخطيرة التي يقع بها الداعية إلى من يدعوهم ( نظرة المستعلي ) يكلمهم كلام المترفع
وكأن لسان حاله يقول :
أنا العالم وأنتم الجاهلون ، أنا الطائع وأنتم المذنبون ، أنا التقي وأنتم الفاسقون ، أنا المتبع وأنتم المبتدعون
أنا المهتدي وأنتم الضالون .. قال تعالى : ( كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم فتبيّنوا )
فما نفع الحكمة والرحمة إن لم تتوجا بالتواضع ، وأي حكمة نجدها وأي رحمة نرجوها ممن اتصف بالكبر ؟؟؟
سئل الفضيل بن عياض عن التواضع ؟ فقال : يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله .
( قال صلى الله عليه وسلم : إن الله أوحى إلي أن تواضعوا ولا يبغ بعضكم على بعض ) [ أبو داود ]
( وقال عليه الصلاة والسلام : ماتواضع أحد لله إلا رفعه ) [ مسلم ]
( وقال صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر ) [ مسلم ]
وقال أيضاً : ( إن من أحبّكم إلي واقربكم مني مجلساً يوم القيامة احاسنكم أخلاقاً
وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون
قالوا : يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون ؟ قال : المتكبرون ) [ الترمذي ]
وقال بعض الحكماء : من تكبر على الناس ذل ، تاج المرء التواضع
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبده ، فقولوا : عبد الله ورسوله ) [ البخاري ]
( قال صلى الله عليه وسلم : ثلاثٌ مهلكات : شحٌ مطاع ، وهوى مُتّبع ، وإعجاب المرء بنفسه ) [ الطبراني ]
وما أطيب ما قاله الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى :
إذا تمّ علم الإنسان لم ير لنفسه عملاً ولم يعجب به لأشياء منها :
1- أنه وفق لذلك العمل : قال تعالى ( حَبب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم )
2- أنه إذا قيس بالنعم لم يف بمعشار عشرها
3ـ أنه لو حظت عظمة المخدوم احتقر كل عمل وتعبّد
قال الشاعر :
أحسن أخلاق الفتى واتمها ** تواضعه للناس وهو رفيع
وأقبح شيء أن يرى المرء نفسه ** رفيعاً وعند رب العالمين وضيع
إذاً : الحكمة لا تكون حكمة إلا إذا اقترنت بالرحمة ولا تكتمل إلا بالتواضع ..
نسأل الله سبحانه وتعالى الحكمة والرحمة في الأمر كله
0 comments:
Post a Comment