قصة المورسيكي الأخير - ج6
ذات يومني أمرني سيدي أن أقوم لشهود محاكمة أحد الزنادقة
وهي محاكمات يهوى سيدي حضورها عسى أن يجد فيها ما يعجبه من نساء هؤلاء الزنادقة
لكن اليوم عرفت أن الرجل مسلم ، لا مناص طبعا من الحضور
رأيتهم يسحبونه وقد بلغ به الإعياء كل مبلغ فأمرهم رئيس المحكمة بإيقافه ، فقالوا له لا يقوى على الوقوف
فابتسم في خبث وقال إذا ضعوه في التابوت وسوف يقف وحده
وجاء التابوت أمام ناظري فإذا هو مسمر بالمسامير من أوله لأخر لو رقد فيه لمزقته المسامير تمزيقاً
فاضطر المسكين للوقوف على ما فيه
لكن العجيب هذه المرة أن الرجل كان شجاعاً ، إنه يقول صراحة انه مسلم موحد !!
يسأله من إلهك ؟
فيقول بكل عزة نفس : إلهي هو الهكم نفسه !
فيسأله عن اسمه ؟؟
فيقول الله في ملكوت سموائه !
فيسأله ثم يأمر بجلده على وجهه
ثم يأمره بالقرب ويقول له : تعالى يا محمد أليس هذا اسمك قبل اعتناق المسيحية ؟
لماذا اخترت اسم صمؤيل ولم تختر اسما مسيحياً كبولس أو جرجس ؟
ثم يسأله عن مكان أبيه وأمه
فيرد عليه : قائلا إنهما قد ماتا
فيسأله أين ماتا ؟
فيرد عليه في بؤس : في دواوين التفتيش .
فهل ماتا حرقاً ؟
كلا بل تعذيباً حتى تهرَأت أجسادهما .. فماتا من شدَة العذاب .
وبماذا أٌتهما ؟
لقد كانا بريئين
هل لك أخوة ؟
أظنُ ذلك .. !!
كيف تظن !؟ أين أخوتك وأين يقيمون ؟
بل قل لي أنت أوَلاً : أين ماتوا وأين قبورهم ؟
يظهر أنك تريد أن ينفد صبرنا معك ... فسنبدأ بتعذيبك ... يسوؤني هذا ...
إذاً ... أنت لا تريد أن تدلنا على البقيَة الباقية من أخوتك ولا عن مكان إقامتهم
إنَ ( الديوان المقدَس ) لا يخفى عليه أنَ لك أخوة هم على قيد الحياة ، وهم يصلون في مساجد خفيَة
ألا تعلم أين هم ... ؟
لا أعلم ...
لمَا صدر الأمر بسجنهم هربوا ... أفلا تعلم إلى أين ؟
كلا ...
يجب أن تساعدنا على معرفة مقرهم حتى نخلص نفوسهم .
على غرار ما ستفعلون معي الآن .
فيسكت المحقق قليلا ثم يعود ويسأله : أنت تسكن مع امرأة ... فمن تكون هذه ؟
زوجتي ...
كيف يمكنك إدعاء هذا ؟
هي تريد أن يكون الأمر كذلك
علمنا أنها مسيحيَة وأنت بهذا العمل تخالف آداب ديننا المسيحي وتنبذ العفاف
فيجب عليك أن تسلم زوجك للديوان المقدَس .
هل هذا هو العفاف والدين عندكم ؟
نحن لا نجادلك بل نأمرك ..
إذا كنتم تأمرونني فأولى بكم أن تقتلوني ..
وهذا كل ما يمكن أن تفعلوه ، وعندئذٍ سوف تصلي زوجتي من أجلي .
ويلك يا شقي ... ألا تزال مصرَاً على إنكارك ؟
أصلح هفواتك و خطأك يا هذا وإلاَ فإنك سوف تدفع لعنادك ثمناً باهظاً ...
و الآن فلنتمَ أعمالنا ، قل لنا أين أخوتك وأين زوجتك ؟
هم في مكان أمين ...
ألا تريد أن تعترف بأكثر من هذا ؟
إني أعترف إلى الله خالقي فحسب ... أنتم تعذبونني والله يعلم أني برئ
سوف تساق إلى التعذيب الآن فالأولى لك الإقرار
لا يعنيني العذاب ... فإنَ جسمي مخدَر لا يشعر
إذا لم تجب على ما سألناك الآن فسوف تسقى الماء رغم أنفك ، يدفع إليك من خلفك حتى يقضى عليك .
لقد احترقت رجلاي بناركم فلم أمت حتى الآن ...
فقال أحد القساوسة – وهو يتصنع الرقة والعطف عليه ، بصوتٍ متكلف : -
اعلم يا بنيَ أننا لا نرمي من وراء تعذيبك إلا إلى الإقرار عن بقيَة أهلك الذين تحبَهم
وبذا تنجي نفسك ونفوسهم ، ونصعد بكم إلى السماء !!!
فأجاب الرجل : إذا صعدنا نحن إلى السماء فمن يهوي بكم أنتم إلى الجحيم وبئس القرار ؟؟
فصدرت شهقة من الواقفين ..
عندئذٍ أشار أحد رؤساء المحكمة بيده إشارةً سريعةً إلى المعذبين المرتدين الثياب السود
الواقفين أمام آلات التعذيب .. ، فهجموا عليه وأخذ البعض منهم يضع الحبال في يديه وصدره معاً ، ويلفها لفاً
وآخرون ربطوا رجليه بحبلٍ دقيق ثمَ وضعوه على مائدةٍ خاصَةٍ وأعادوا ربطه عليها ربطاً وثيقاً
وتقدَم أحد هؤلاء المعذبين وهو يحمل جرَةً ملأى بالماء ، وتقدَم آخر وفي يده قمع
فقال الكاهن الموكل بوعظ الخاطئين ، والصلاة لأجلهم :
والآن يا " صموئيل " لماذا تضطرَنا يا بنيَ إلى تعذيبك وإحداث هذه الآلام لك ما دمت قادراً على الخلاص
من هذا كله إذا ما قلت لنا أين أخوتك وأين زوجتك ؟؟
لا يمكنني أن أقول لكم شيئاً عنهم لأني قد وعدتهم وأقسمت لهم بأن لا أخونهم وأسلمهم لديوان التفتيش .
فقال الكاهن : ولكنا لا نعتقد أنهم يرضون لك هذا الحال وهذا العذاب الأليم ..
إنَ هذا السكوت لا يعدُ أمانةً الآن بل يعدُ جنوناً ... قل قبل أن يبدأ الرجل بتعذيبك ..
إنني أشكر لكم إذا ما قتلتموني مرَةً واحدةً .
دعْ عنك هذا العناد يا رجل ، واعلم جيداً أنك سوف تموت دون أن يعلموا بأنك متَ فداءً لهم
والمحكمة سوف تقبض عليهم إن عاجلاً أو آجلاً فتكون قد متَ بغير فائدة
ومع هذا فإنَ زوجتك هذه سوف تنساك لا محالة و تتزوَج سواك ... و ربما تكون قد خانتك الآن ...!!
فاحمر وجه الرجل وصرخ : صهْ أيها النذل الحقير
واعلم جيداً أنَ عذابكم لجسدي لا يعنيني قدر تعذيبكم بكلامكم هذا الذي تلفظه ألسنتكم القذرة السامَة ...
وبكى الرجل وبدؤوا بتعذيبه فكان صراخه يملأ القاعة ولكن ليس من منقذ
بيد أنَ القساوسة كانوا وقوفاً يصلون وبيدهم كتبهم يرتلون منها ...
وبينما هم يعذبون المسكين على هذه الصورة سيقت سيدة أمام المحكمة
فاعتدل سيدي موريل والتفت إليها وكانت رابطة الجأش ، ذات شجاعةٍ مدهشةٍ
ونظر إليها رئيس المحكمة نظراتٍ حادَة ، كلها الحقد والغضب والإنتقام
وسألها : ما اسمك .. يا هذه ..
" سوزانا فرناندس " وسمع زوجها المعذب فأنَ أنيناً طويلاً
وعرف أنهم قبضوا على زوجته ، وأنها وقعت بين مخالب وأنياب أولئك الوحوش العتاة ..
أمَا هي فلم تتمكن من معرفة الذي يعذب ؛ بسبب الظلام الدامس الذي كان يلفُ المكان ...
فأمرها القاضي بعدم التلفت وسألها : بنت من أنت ؟
- لا أعلم
- ألا تعليمين من هما أبواك ؟
- كلا انما رأيت ذات مرة رجلاً ماراً بحي تريانا فقيل لي انه أبي
- أين أمك ؟
- ماتت
- ماتت في الوادي ؟
- بل ماتت جوعاً في محاكم التفتيش
ثم مضى استجوابها حتى تم تعذيبها تعذيبا مخيفا ، وزوجها يأن وهو يرسف في أغلاله
حينها لم أتمكن من مغالبة نفسي وما ملكت كفكفة عبراتي
فمددت يدي أحاول مسح دمعاتي قبل أن يلحظها أحد الشياطين
ولكن اللحظة التي طالما خشيتها وقعت وفي لحظت وجدت كل من في القاعة يحدقون في ذاهلين
حتى المعذبين قد تركوا الرجل والمرأة والتفتوا إلي ..
أما سيدي موريل فقد فغر فاه ذاهلاً
أما القاضي فقد شاعت في وجهه ابتسامه شريرة وهو يداعب ذقنه المدببه الشبيهة بذقن الشياطين
كما يصورها أهل هذه الملة ، وأسند ظهره للوراء ان غدا باسما ينتظره وضحية جديدة قد وجدها
المثير للرعب أني أعلم أنه سيعرف الكثير ، عني وعن أسرتي ومن أعرف
وسيحاولون أن ينتزعوا مني المعلومات بأسرع ما يمكن حتى لا يهرب أحد ممن أعرف ،،،
فقط كل ما أعرفه أن عجلة العذاب دارت ودارت حتى وجدني رجال الحملة الفرنسية في الدير ،،
فقط لأسأل نفسي ، من السبب ؟ هل دفع عني الجبن ما أجد ؟
أنا اليوم المورسيكي الأخير في هذه البلاد
والمورسيكيين هو الإسم الذي اطلق علينا ويعني المغاربة السود كناية عن المسلمين
ما أحسب أن هناك غيري ، ولو أنهم ما زالوا هناك هل يستحقون هذا اللقب حقا ؟
انهم يدفعون ثمنا باهظا بأخطاء ابائهم وثمنا باهظا لجبنهم ، وثمنا باهظا لإيثارهم الدنيا
اليوم أنا المورسيكي الأخير في الأندلس
وغدا ستجدون المورسيكي الأخير في بلد أخر وفي زمان اخر ...
لكـل شيءٍ إذا ما تـم نقصان *** فـلا يغـرّ بطيب العيش انسان
هي الأمـور كما شاهدتها دولٌ *** من سـره زمنٌ ساءته أزمـان
وهـذه الـدار لا تبقي على أحدٍ *** ولا يدوم على حـالٍ لها شان
أين الـملوك ذو التيجان من يمنٍ *** وأين منهم أكـاليلٌ وتيـجان
أتى على الكل أمرٌ لا مـردَ لـه *** حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وللمصائب سلـوانٌ يهونـها *** وما لـما حلّ بالإسلام سلوان
دهى الجـزيرة أمرٌ لا عزاء لـه *** هوى لـه أحدٌ وانهد ثهـلان
أصابها العين في الإسلام فارتزأت *** حتى خـلت منه أقطارٌ وبلدان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسفٍ *** كما بكى لـفراق الإلف هيمان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدةٌ *** حتى الـمنابر تبكي وهي عيدان
على ديارٍ من الإسلام خـالية *** قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد أمست كنائس ما *** فيهنَّ إلا نواقـيسٌ وصلبان
تلك الـمصيبة أنست ما تقدمها *** وما لـها مع طويل الدهر نسيان
أعندكم نبأٌ من أمـر أندلـسٍ *** فقد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث صناديد الرجال وهم *** أسرى وقتلى فلا يهتز إنسان
ماذا التقاطع فـي الإسلام بينكم *** وأنـتمُ يا عباد الله إخـوان
بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم *** واليوم هم في قيود الكفر عبدان
فـلو تراهم حيارى لا دليل لهم *** عليهم من ثياب الـذل ألوان
فـلو رأيت بكاهم عند بيعهم *** لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا ربَّ أمٍ وطفـلٍ حـيل بينهما *** كما تفـرّق أرواحٌ وأبدان
وطفلةٍ مثل حسن الشمس إذ *** طلعت كأنـما هي ياقوتٌ ومرجان
يقـودها العـلج للمكروه مكرهةً *** والعين باكيةٌ والقـلب حيران
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ *** إن كان في القلب إسلامٌ وإيمان
هل للجهـاد بها من طالبٍ *** فلقد تزخرفت جنة المأوى لها شان
ملحوظة :
قصة المحاكمة المذكورة حقيقية بالكامل
ولم تتدخل فيها القصة إلا بتعديلات طفيفة لإقحام بطل القصة فيها ليس أكثر
لقراءة الجزء الأول ، تجده هنا : http://almenhag.blogspot.com/2014/01/last-morsiki-part1.html
لقراءة الجزء الثاني ، تجده هنا : http://almenhag.blogspot.com/2014/01/last-morsiki-part2.html
لقراءة الجزء الثالث ، تجده هنا : http://almenhag.blogspot.com/2014/01/last-morsiki-part3.html
لقراءة الجزء الرابع ، تجده هنا : http://almenhag.blogspot.com/2014/01/last-morsiki-part4.html
لقراءة الجزء الخامس ، تجده هنا : http://almenhag.blogspot.com/2014/01/last-morsiki-part5.html
قصة لـ ( مروان عادل )
0 comments:
Post a Comment