مأساة أراكان بين الماضي والحاضر
نعلم جميعاً أن الأمة الإسلامية والعربية تمرّ بظروف صعبة في خلال القرنين الماضيين إلى يومنا هذا ؛ فهنا فلسطين، وهناك العراق وأفغانستان والبوسنة وسورية وغيرها ؛ كلها تعيش بين مطامع الغرب، وبين مدافع الجوع وصواريخ الموت والدمار، وبين السياسات الباردة التي تعيشها أغلب الحكومات العربية، ومع ذلك تحركت الشعوب والحكومات وتعاطفت مع هذه القضايا المفجعة مع قلّتها بغض النظر عن الحلول الواقعية في الساحة
لكن الناظر في قضية أراكان، مسلمي الروهنجيا إخواننا في الدين والعقيدة ومن أحفاد الصحابة والتابعين يُضطهدون ويُشرّدون ويهجّرون منذ مئات السنين؛ لم يجد هذا التحرك المطلوب من الأفراد والشعوب والحكومات، خاصة في الأزمة الأخيرة، ويجد أن المنظمات العالمية والإغاثية والحقوقية أخفت الملف، وكانت الحكومات العربية والإسلامية تعرف معاناتهم في السابق، إلا أنها تباطأت وأوكلت القضية إلى الأمم المتحدة واعتمدت عليها، والحكومة الميانمارية البوذية كلما صعّدت القضية بدأت تخفي جرائمها أمام العالم، وكانت أراكان بلدة مسلمة تعيش بأمن وسلام كغيرها من البلدان، ودخل الإسلام إليها عن طريق التجار العرب في عهد الخليفة هارون الرشيد - رحمه الله -، وأقيمت مملكة إسلامية واستمرت ثلاثة قرون ونصف تتابع على حكمها 48 ملكاً مسلماً على التوالي، لكن البداية المؤسفة التي لا ينساها الأراكانيون كانت في عام 1784م عندما احتل الملك البوذي مملكة أراكان وضمها إلى بورما خوفاً من انتشار الإسلام في المنطقة، وعندها بدأ الحقد البوذي ينتشر في أراكان وضد مسلمي الروهنجيا ولجؤوا يخططون للخلاص منهم بشتى الوسائل الممكنة، فالحكومة البوذية تحاول طمس الهوية الإسلامية وآثارها بتدمير المساجد والمدارس وبناء المعابد البوذية عليها وقتل العلماء والدعاة، وهناك تضييق على التعليم في المدارس الحكومية وحرمانهم من العمل، كما ألغي حق المواطنة للمسلمين وتم إعطاؤهم أوراقاً تفيد بأنهم دخلاء غير مواطنين، ومن يرفض فمصيره الموت أو الاعتقال أو التعذيب، وجُعل العمل القسري لدى الجيش والحكومة سخرة دون مقابل، وكانوا يُمنعون من السفر للخارج حتى لأداء الحج ومن يخرج لا يدخل أبداً، وكانت تُفرض عليهم عقوبات اقتصادية كبيرة من حيث الغرامات المالية والضرائب والمنع من بيع المحاصيل؛ ليبقوا فقراء أذلاء تحت أوامر الحكومة وسيطرتهم، واتجهوا إلى التقليل من أعداد المسلمين بشتى الوسائل من تحديد النسل ومنعهم من الزواج إلا بشروط معينة توافق هواهم.
وأشد ألوان المأساة في الماضي التطهير العرقي والإبادة الجماعية بكل أنواع الاضطهاد من قتل وتشريد
وتعذيب واغتصاب الفتيات والنساء واعتقال الرجال والشباب ومصادرة الممتلكات.
واستمرت عدة حملات من المجازر، حيث أبيد في بعض تلك المجازر أكثر من 100 ألف مسلم، وما كان من المسلمين إلا الفرار بدينهم وعقيدتهم بعدما ذاقوا الويلات واشتدت المعاناة وحُرموا من حقوقهم، فبدأ المسلمون ينزحون ويهجرون إلى الدول الإسلامية ويطرقون أبوابها كبنغلادش وباكستان وماليزيا وتايلاند والهند والأردن والسعودية.
حفاظاً على دينهم وأرواحهم فروا إلى الديار التي وضعوا آمالهم فيها لصلة الدين والعقيدة بينهم. فعندما استطاعوا تقليل المسلمين بالتهجير الجماعي للدول المجاورة هدأت الأمور سنوات مع العمل في الخفاء والاستمرار في إضعاف المسلمين في كل الجوانب، لكن الذي غفل عنه الكثير أن الحكومة تعمل منذ دخول البورمان بخطط مدروسة للقضاء على المسلمين، وهي تسير وفق خطة مدروسة منذ قرون، وانشغال الحكومات الإسلامية والعربية بثورات الربيع العربي ثم قضية سورية مع غيرها من القضايا؛ أوجد للحكومة الميانمارية البوذية فرصة للسير على الخطة المدروسة للقضاء على المسلمين..
فأشعلوا الحدث بقصة اغتصاب مفبركة وأعلنوا في المناطق والقرى البوذية ومراكز الشرط أن المسلمين يقتلون الأبرياء، فوجدوا الدعاة العشرة يتنقلون من مكان الحدث فقتلوهم جميعاً في آن واحد، وانتشر الخبر وعمل ضجة إعلامية على المستوى الدولي، فما كان منهم إلا أن فتحوا لجنة للتحقيق في مقتل العشرة من عند أنفسهم، وكانت الحكومة في ثوب المتعاطف مع أنها شاركت في قتلهم وذبحهم..
ثم عززت القوات والجيش والشرط للسيطرة على المواجهات، لكن الذي حدث هو أنها انضمت إلى صف الشباب البوذيين المجرمين وشاركتهم بالأسلحة والسواطير وكوّنت عصابات لقتل المسلمين ونهب الأموال وعاثوا في الأرض فساداً وأعلنوا حظر التجول على المسلمين، ومن خرج يقتل أو يسجن ويعذب، والحكومة سخّرت شبابها بالمال والسلاح لقتل المسلمين وتنفي وتخفي جرائمها أمام العالم ووسائل الإعلام، ولما واجهت الضغط من الحكومات والمنظمات في بداية الأمر عدلت خطابها إلى الخوف من التحول الديمقراطي بسبب الاضطرابات وأنها تخشى الفوضى وبريئة من كل الانتهاكات الموجودة.. حافظوا على صورتهم أمام العالم وفي الداخل تشاركت الحكومة مع الشعب البوذي في إزهاق الأرواح وسفك الدماء فحاصروا القرى والمدن التي يسكنها المسلمون وبدؤوا بقتل الأطفال والنساء واعتقال الرجال وهدم المنازل والمساجد وحرق القرى بأكملها وإهانة الدين الإسلامي، وانتشر شباب البوذيين بالأسلحة والسكاكين والسواطير، والذين يهربون من ظلمهم يُقتلون أو يعذبون، والكثير فروا إلى بنغلادش عبر البحر بالزوارق والقوارب المتهالكة، لكن الفاجعة الكبرى أن بنغلادش أعادت الزوارق التي تقل أكثر من 300 مسلم في بداية الأزمة، وذكرت تقارير إخبارية أن النازحين إلى بنغلادش وصل عددهم إلى ما يقارب 75 ألفاً يعيشون بلا مأوى بعد الصراع في ميانمار، فضلاً عن اللاجئين الذين يقدر عددهم بـ 28 ألفاً يعيشون وضعاً مأساوياً للغاية بات يهدد حياتهم ومصيرهم وينذر بوقوع كارثة إنسانية وأمراض مزمنة، كما هو الحاصل الآن تماماً. وهذه الأعمال الإجرامية في ميانمار دفعت 100 ألف للخروج من منازلهم، واتجه الكثير إلى الدول الإسلامية المجاورة، وقتل الكثير، وغرق الكثير، وكان هناك 870 مسجداً و1000 مدرسة كلها هُدّمت بالكامل..
والمأساة عظيمة وأعداد القتلى والجرحى والغرقى والفارين كثيرة لا يمكن أن تحصر في مقالة واحدة
ففي الماضي كانت تقع المجازر تارة والتهجير تارة أخرى ثم تهدأ وتعود هكذا مع استمرار الاضطهاد والاستعباد ومنعهم من التعليم والمضايقات في البيع والشراء وغيرها ، وجعل الزواج بشروط معينة، ومع ذلك كانت الحياة بالنسبة لهم آمنة.. أما المأساة الجديدة الحاضرة فقد أتت بعد فترة طويلة كانت تمهّد لخطة طويلة المدى، وأشعلت نيرانها بقصة الاغتصاب المفبركة مع تزامن التحول الديمقراطي في البلاد كما يزعمون، وأيضاً انشغال الأمة الإسلامية بالثورات العربية وغيرها، وظهور الشخصيات الأراكانية السياسية والعلماء المفكرين، وبعد تدهور الأوضاع طمعت الدول الغربية في ثرواتها فمنحت الاتحاد الدولي 80 مليون دولار وأعفتها من الديون، وأعلن رئيس أمريكا مؤخراً قيامه بأول زيارة إلى ميانمار بعد الانتخابات؛ كل هذه لم تكن موجودة بالسابق لأنها لم تكن منفتحة على العالم وكان تعاملها الخارجي محدوداً وضيقاً جداً، لذلك أصبحت قوية عسكرياً ومادياً، فأصبح موقف الغرب تجاه القضية بطريقتين: طريقة تدعو ميانمار لوقف القتال وتحثها إلى دعم الديمقراطية وإعطاء الحقوق الإنسانية. وطريقة أخرى تدعمها بالمال لقتل المسلمين وبتعزيز العلاقات والزيارات وغيرها.
ونحن العرب والمسلمين - للأسف الشديد - تحركاتنا لم ترقَ إلى مستوى الحدث ، فإغاثة المنظمات والشعوب
والحكومات وتداول القضية سياسياً والضغط على ميانمار ودول الجوار؛ ما زالت متواضعة ..
نحن نصرخ ونستنكر لكن نيران البوذ تشتعل إلى يومنا هذا من غير فتور ولا كسل ...
نعم فعلنا الكثير وبقي الكثير والكثير ، ومن بحث عن السبل للنصرة وجد ، لكن أين الباحثون ؟
ومأساة مسلمي الروهنجيا تبقى أمانة في رقبة كل قادر على نصرتهم ...
وفقني الله وإياكم لنصرة المظلومين .
0 comments:
Post a Comment